الالمان وعبقرية شعب  ..

الالمان وعبقرية شعب  ..

د. محمد عبد الستار البدري

كثير من الاجيال تنظر للشعب الألماني اليوم على أنه محرك أوربا السياسي والاقتصادي وصاحب أقوى الصناعات، بينما الأغلبية لديها اعتقاد راسخ بأن التفوق الالماني يكاد يكون في أغلب المجالات وهذه كلها بالفعل حقائق ناتجة عن تراكم ممتد للشعب الالماني على مدار أكثر من ألفين وخمسمائة عام، وفي الجعبة التاريخية الالمانية أكثر من سبب لهذا التميز، فلهذا الشعب العظيم والعريق محطات في المسيرة الانسانية والاوربية، فاسهاماته ليست وليدة ما بعد القرون الوسطى كما قد يشاع لدى البعض.

كانت بدايات الشعب الالماني على الساحة الاوربية من خلال مجموعة من القبائل التي عرفت في التاريخ باسم القائل الجرمانية Germanic Tribes من امثال (الجوث) و(الفيزجوث) و(الفرانكس) الخ …والتي تنحدر أغلبيتها من أصول شمالية وتستخدم اللغات الاندو-اوربية. كانت هذه القبائل ذات قوة وبأس ولكنها أقل مدنية وتحضرا مقارنة بجيرانها وعلى راسهم الدولة الرومانية، مما دفع غطرسة الاخيرة لاعتبارها قبائل همجية Barbarians للتباين الثقافي والحضاري، وقد اتبعت روما فيما بعد سياسة استمالة هذه القبائل بدلا من الدخول معها في صراعات مفتوحة، ولكن سرعان ما قويت شوكة هذه القبائل فقامت قبائل (الاوستروجولس) بالاستيلاء على روما في عام 410 للميلاد .فسقطت روما على أيدي احدى القبائل الالمانية بعد صمود لأكثر من اثني عشر عاما .

هنا يمكن اقتفاء الاثر الايجابي للشعوب الالمانية من خلال تتبع مسيرة فبائل الفرانكس ( Franks) على سبيل المثال والتي استطاعت بجهود ( شارل مارتيل ) تثبيت اركان الامبراطورية ( الكارولينجية ) وهي اول سلطة مركزية في وسط وغرب اوربا بعد سقوط الدولة الرومانية الغربية، واليه يرجع وقف الزحف الاسلامي في معركة ( بواتيه ) الشهيرة، وهو في نفس الوقت جد ( شارلمان ) العظيم الذي اسس اكبر امبراطورية مركزية تحولت فيما بعد لاهم عنصر ثقل على الساحة الاوربية تحت مسمى ( الامبراطورية الرومانية المقدسة ) والتي تكونت من الجذور الالمانية بتركيبة من الاقطاعات والدويلات التي تمركزت حول ما يعرف اليوم بالمانيا والمجر والنمسا والتشيك الخ …ولعل من أغرب المفارقات التاريخية أن تكون القبائل الجرمانية التي اسقطت الدولة الرومانية الغربية هي نفسها التي أنقذت الحضارة الغربية من التاثير الاسلامي بعد ثلاثة قرون ونصف تقريباً .

ولكن الدور الالماني لم يتوقف عند حد القوة والسلطة السياسية، بل بدأ يدخل المجال الحضاري من أوسع أبوابه ، فالمد الثقافي الالماني سرعان ما بدا يمثل تياراً قوياً في تشكيل فكر القارة الاوربية ووجدانها من خلال التاثير على المدخل الثقافي الاول وهو الديانة المسيحية الكاثوليكية، وهنا تبرز مفارقة تاريخية أخرى جديرة بالتأمل ، وهو أن نفس الشعب الجيرماني الذي حمى المسيحية في معركة (بواتيه) وبعدها، هو نفس الشعب الذي ينسب له وضع أساس تفتيت الكنيسة الكاثوليكية اعتبارا من عام 1517 ، ففي هذا التاريخ علق الراهب الالماني الصغير ( مارتن لوثر ) خمس وتسعين حجة على باب كنيسة ( وتنبرغ ) ضد ممارسات الكنيسة وخروجها على تعاليم السيد المسيح ، فاتحا الباب لحركة اصلاح ديني واسعة النطاق في أوربا غيرت شكل الثقافة والحضارة الاوربية وحركت المياه الراكدة للفكر الاوربي وأخرجت القارة بأكملها من ظلمات القرون الوسطى إلى الفكر الحر وبداية عصر المنطق والتنوير ، فانطلقت من بعدها الحضارة الاوربية لآفاق جديدة جعلتها على ماهي عليه اليوم . ولكن العلاقة التفاعلية بين البأس السياسي والزخم الثقافي استمرت في التاثير على القارة الاوربية ، فنجد الامبراطورية الرومانية المقدسة تدخل في حرب أهليه بسبب الانقسامات الدينية والتداخلات السياسية لتنتهي بهزيمة التيار الكاثوليكي واضعاف الامبراطور لصالح الدويلات والاقطاعات البروتستانتية، مما فتح المجال واسعا امام بداية ظهور الدولة القومية في أوربا والتي تعتمد على البعد الوطني خاصة بعد اتفاقية ( وستفاليا واوسنابروك ) في عام 1648 والتي وضعت الحد لآخر الحروب الدينية بعد أن أنهت حرب الثلاثين عاما. وهكذا صار الشعب الالماني يضع أسس السياسة الاوربية ببأسه وفكره وحركاته المختلفة .

وعلى الرغم من أن الدولة القومية الألمانية لم تظهر جلية حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر بعد أن توحدت تحت راية بروسيا على يد المستشار الالماني الداهية (بسمارك) فإن القرنين الثامن والتاسع عشر شهدا بزوغ فجر ثقافي وفني وفلسفي الماني أثر مباشرة على أوربا والعالم من خلال حركة فكرية وفنية واسعة النطاق لا تكفي لرصدها كتب . ولكن نسوق منها الحركة الفلسفية الالمانية التي تاثرت بفكر الفيلسوف العظيم ( ايمانويل كانت Kant ) والذي يعد أحد أهم الحجح للفكر الليبرالي الغربي . ثم من خلال فلاسفة آخرين عظام من أمثال ( هيجل ) صاحب نظرية الجدلية المادية الشهيرة والتي استوحى منها ( كارل ماركس) الالماني مفهومه لحركة التاريخ واطروحاته التي كونت الفكر الشيوعي فيما بعد ، ومن بعدهم فلاسفة آخرين من أمثال ( نيتشه ) و (ماركيوزي ) ناهيك عن علماء اجتماع من امثال ( ماكس ويبر) ومؤسس علم النفس الحديث (سيغموند فرويد ) والشاعر ( غوته ) ومؤسس علم العلاقات الدولية ( هانز مورجنتاو ) و (انشتاين )…الخ أما على الصعيد الفني فحدث ولا حرج من (موزارت ) إلى ( بتهوفن ) و (باخ ) و ( هايدن ) وغيرهم من المبدعين الحقيقيين الدين تركوا للعالم رصيداً من الإعجاز الفني المنسوب لهم كأشخاص وللعرق الالماني ككل . أما دور الشعب الالماني على مدار القرن العشرن العشرين فلا يحتاج لاستزادة فهو الشعب الوحيد في التاريخ الذي دخل حربين عالميتين في أقل من نصف قرن وهزم فيهما ليقوم أقوى من قبل ، وحتى في انتصاراته وهزائمه ، ترك لنا الشعب الالماني فكراً عسكرياً يدرس .فإليه ينسب تأسيس علم الاستراتيجية على أيدي الكاتب العسكري ( فون كلوز ويتز ) ثم ولد لنا هذا الشعب شخصيات عسكرية خالدة مثل ( فون مولتك ) و (فون شلايفن ) اضافة الى جنرالات في عهد هتلر نختلف معهم في توجهاتهم في طبيعة الحال ولكن نحترم قدراتهم وعلى راسهم ثعلب الصحراء ( رومل ) وغيره .

في التقدير ان الشعب الالماني يمكن اعتباره من اكثر الشعوب التي أثرت في تاريخ ومسيرة القارة الاوربية والعالم في أغلب المجالات ، وهنا تحضرني مقولة شهيرة للفيلسوف الالماني الشهير ( آرثر شوبنهاور ) والتي يقول فيها ( إن الموهبة هي إصابة الهدف الذي لا يستطيع غيرنا اصابته … أما العبقرية فهي إصابة الهدف الذي لا يستطيع غيرنا رؤيته ) . واعتقادي الراسخ ان الشعب الالماني يمثل الفئة الثانية من الشعوب ، فمن خلال رحلته من قاع الهمجية الى اسمى المدنية والتحضر حقق هذا السعب على مدار تاريخه انجازات لم تستطع غالبية الشعوب الاوربية مجرد رؤيتها . .

  • Social Links:

Leave a Reply