شاب من هذا الزمان 1-2

شاب من هذا الزمان 1-2

زكي الدروبي

في عيد مولدك السادس والأربعين لا أعرف كيف سأكمل حياتي ونضالي دون ابتسامتك الواثقة بالنصر، دون كلماتك المشجعة، دون حماسك. قد يبدو حديثي التالي شيئاً مستغرباً لدى البعض، إذ لا يمكن في هذه الأيام أن تتواجد مثل هذه الصداقة التي سأتحدث عنها، الصداقة التي ربطتني مع ابن عمي المحامي الشهيد بإذنه تعالى عماد الدروبي، فدرجة القرابة لم تكن مباشرة، بل نحن أبناء عمومة، ولم أعرفه إلا بعد تخرجه من الجامعة وقبل الثورة بعدة سنوات.

كانت معرفتنا مصادفة ولم تكن علاقتنا علاقة قرابة بالمعنى المعروف، بل كانت علاقة أخوة وصداقة، لقد وجدنا نفسينا متفقين في كثير من القضايا الفكرية والسياسية، وكان مكتب والده الدكتور المحامي نهاد الدروبي يشبه صالوناً سياسياً، يلتقي فيه عدة شخصيات سياسية وثقافية، وكانت الأحاديث تدور حول النظام المستبد، وكنت سعيداً بمعرفتي بالعم (أبو عماد)، وهو أستاذ القانون الدستوري.

سألت عماد رحمه الله في أحد الأيام، وكنا أنا وهو لوحدنا. قل لي بصراحة، هل استفدت من كون والدك أستاذاً في كلية الحقوق بجامعة حلب وأنت تدرس في تلك الكلية ؟ فضحك وقال لي كانت الفائدة الوحيدة أن والدي كان محبوباً من الطلاب، وكنت آتي إلى محاضرة والدي، فأجد مكاناً قد حجزه لي زملائي الطلاب، لأن المدرج يكون مملوءاً عن آخره قبل ساعة من محاضرة والدي، لكن لم أكن استمتع بمحاضرته، فما أن يبدأ والدي بمحاضرته حتى ينتابني القلق والخوف من كلامه المنتقد للنظام. قال لي في أحد الأيام كان والدي يشرح عن قانون العقوبات الاقتصادية، ورفع ورقة دولار في المدرج وقال للطلاب إن قبض علي الأمن ومعي هذه العملة فسأخضع لقانون العقوبات الاقتصادية وأحكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً، وهي مدة مماثلة لحكم القتل العمد، وأخذ يفند القانون وينتقده بقسوة، فخفت. وتابع عماد حديثه ضاحكاً: كنت أقول له في سري خفف شوي يا بابا، وانزوى قليلاً قليلا لينزل عماد رحمه الله تحت طاولة المكتب ممثلاً لي دور الخائف وهو يقهقه ساخراً من تلك اللحظات.

كما روى لي رحمه الله عن فصل والده من الجامعة نتيجة طول لسانه على “القيادة الحكيمة”، فحين صدر قرار فصله قام الطلاب بكتابة عريضة تطالب ببقائه في الكلية وتم التوقيع عليها من أكثر من 250 طالباً، وزاره بعضُهم في مكتبه وأخبروه بما فعلوه وأن عريضتهم سلموها لعمادة الكلية، فضحك وقال لهم يا أبنائي الآن تأكدت أنني مفصول لا محالة، فذهل الطلاب وسألوه لماذا؟ فأجابهم هذا يثبت أنني أستاذ جامعي له شعبية وهذا يشكل خطراً عليهم وعلى استبدادهم.

كان رحمه الله يزودني بملفات ومعلومات عن فساد ما وبدوري أكتبه على شكل مقالات أو أزود بها زملائي الموظفين في صحف سورية ليقوموا بتحقيقات صحفية حول الموضوع كوني كاتب صحفي من خارج الملاك ولا أستطيع كتابة تحقيق صحفي.

تعرفنا سوية على معظم التيارات والأحزاب، نستمع من الجميع ونقرأ منشورات الجميع, ومن خلالها تعرفنا على الأستاذ منصور الأتاسي وهيئة الشيوعيين السوريين، وكان مرجعنا في أي استفسار عن أي موضوع، وكان يترك لنا حرية الاختيار والتعلم والتجريب بعد إبداء ملاحظاته، وفي أحد الأيام دعانا العم بشير خطاب (حزب الشعب) لحضور اجتماع لإعلان دمشق وانتقلنا أنا وعماد رحمه الله لأكثر من مكان وتبادل على نقلنا أكثر من شخص حتى وصلنا إلى منزل أحدهم في حي الوعر، كان يجتمع فيه حوالي 30 – 50 شخصاً، وفيه تمت انتخابات حمص لإعلان دمشق، ورشح عماد نفسه وأنا رفضت المشاركة في الانتخابات ونجح آنذاك عماد كأحد ممثلي حمص المستقلين في إعلان دمشق، ثم ترك الإعلان بعد أسبوع تقريباً.

كنت قد قرأت إعلان دمشق فور صدوره، وكان لي تحفظاتٌ على بعض بنوده فقد كنت أرى أن القضية الديمقراطية لا تنفصل عن القضية الوطنية، وشاركت في لجنة صياغة إعلان حمص بعد خروج إعلان دمشق بأيام، وكنت أرى أن إعلان دمشق هو إعلان سياسي، ولا حاجة لتحويله لكيان سياسي، وحتى إن تم تحويله لكيان سياسي، فهذا الكيان السياسي يجب أن يبنى على تجمعات حزبية ليعبر عن هذا التحالف وليس على تجمعات أفراد، فإعلان دمشق صدر بالأساس عن قوى حزبية سياسية ولم يصدر عن أشخاص لهذا تحفظت على عملية الترشح والانتخابات، أما عماد رحمه الله فقد كان مدهوشاً بشخصية قريبه المناضل الكبير رياض الترك ومحباً له، وطالما أن الأستاذ رياض هو الصانع الحقيقي للإعلان فسيكون معه، أما أنا فقد كنت احترم الأستاذ رياض وأحترم وأقدر وأجل كل المناضلين لكني لم أكن أضع أحدهم بمرتبة الآلهة ولا أناقش ما يصدر عنهم. فقلت له أنت حر رشّح نفسك، واترك لي حرية عدم ترشيح نفسي، وفعلاً فاز عماد رحمه الله بالانتخابات وأصبح أحد ممثلي مستقلي مدينة حمص في إعلان دمشق، ثم تركه بعد أسبوع تقريباً.

كان رحمه الله عاشقاً لنادي الكرامة وفي أحد الأيام اصطحبني معه إلى الملعب البلدي لحضور مباراة كرة قدم يشارك فيها النادي، وفوجئت أن هناك قضاة ومحامين مهمين كانوا من ضمن الشلة والتقوا جميعاً على مدرجات الملعب البلدي ليشجعوا فريق الكرامة.

يتبع

  • Social Links:

Leave a Reply