تحليل : التطرف القومي الروسي ..

تحليل : التطرف القومي الروسي ..

المعلومات مأخوذة من موقع ستراتفور

 عن : Yonadam Yonadam

منذ استلام (فلاديمر بوتين) السلطة قبل 16 عاماً وهو يجهد بلا كلل لاستعادة قيم المحافظين والقوميين، فشجعت حكومته وبزخم شديد الكنيسة الأرثوذكسية الروسية حتى انها وصفت بطريرك الكنيسة بانه “البوصلة” الأخلاقية للدولة. فالكنيسة الأرثوذكسية الروسية وبعد ان عانت الإهمال في الحقبة السوفييتية قامت ببناء وترميم اكثر من 25000 كنيسة بالإضافة الى 8000 دير منذ مجيء (بوتين)، كما ان (الكرملين) شنّ سلسلة من البرامج الموجهة نحو الشباب واضخمها هو برنامج (ناشي) الذي يختص بتقديم دورات من وجهة نظر محافظة في مجال العلوم السياسية والسياسة الخارجية والقيم العائلية، وأخيرا حرصت الحكومة بعد تشديد قبضتها على القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية للظهور بمظهر المنقذ للشعب من براثن الحفنة الاوليغارشية الفاسدة الذين كانوا يتحكمون بثروات البلاد. لقد تمكن (بوتين) عن طريق تغذية وتقوية تلك الأحاسيس الغافية ان يوسع قاعدة سلطته ويكون لنفسه وصاية أخلاقية على سياسة موسكو الداخلية والخارجية.

وبينما كان الغرب يتهم الاتحاد السوفييتي السابق بكونه (عدو الله) فان روسيا بإمكانها الادعاء اليوم ان (الله) يقف الى جانبها، ويمثل هذا التفكير درعاً واقيا استطاع حماية الكرملين من سياساته الداخلية والخارجية بما فيها القوانين التي تحد من نشاط (المثليين) جنسياً وحتى قرارات شن حملات التدخل داخل (أوكرانيا) و (سوريا)، غير ان استراتيجية بوتين الأيديولوجية لها عيوبها أيضاً، فإشعال حماس التطرف اليميني ساهم كثيراً في نهوض الأيديولوجيين الذين يسعون الى دفع الكرملين لاتخاذ خطوات هو غير قادر على السير بها او تنفيذها، وهكذا عندما يلجأ الكرملين ال صد تلك المحاولات والمطالب فان هؤلاء لا يترددون في اظهار امتعاضهم. تشريح بنية التطرف يتكون اليمين المتطرف في روسيا من جماعات متعددة ومختلفة، ويمكن إطلاق لقب المحافظين المتطرفين على كل من (فلاديمير جيرينوفسكي) من الحزب الليبرالي الديمقراطي، والرئيس السابق للجنة التحقيق (الكساندر باستريكين)، وكذلك المستشار الحكومي والاقتصادي (سيرجي جلازييف) ثم المحارب الصليبي الأوراسي (ألكسندر دوغين) وغيرهم. ويعتبر الناس ان بعض هؤلاء المفكرين ليسوا أفضل حالاً من بعض المهووسين وان حاز بعضهم الآخر على شعبية واسعة.

ورغم ان المحافظين المتطرفين يتفاوتون في برامجهم السياسية ودرجة حماسهم فهم يكادون يتفقون على ثلاثة نقاط: 1- سياسة خارجية عدوانية. 2- حملة على المسلمين. 3- اقتلاع جذور الأيديولوجيات الأخرى المنافسة مثل : الشيوعية، والليبرالية، والفاشية. ان مطالب الجماعات المحافظة المتطرفة للحكومة بانتهاج سياسة هجومية وعدوانية يمكن ترجمته بانه دعوات للسلطة للتدخل بقوة في النزاع الأوكراني. لقد انتقد القادة المحافظون المتطرفون وشخصيات أخرى الرئيس (بوتين) لكبحه الهجوم الروسي في (أوكرانيا)، كما ان أغلب هؤلاء يريدون ان تتبنى روسيا مواقف أكثر حزماً من الناحية العسكرية ضد حلف (الناتو) والولايات المتحدة الأمريكية. ثم انه يوجد الكثيرون ممن يفضلون السياسة الانعزالية كنهج لحماية روسيا من التهديدات الغربية، (جلازييف) على سبيل المثال اقترح العام الماضي ان تقوم موسكو بقطع كل صلاتها المالية والاقتصادية مع الغرب ولقد حقق هذا الموقف المفرط في تطرفه موطئ قدم داخل مجلس الأمن الروسي لولا تدخل بعض الشخصيات التي تتسم بالبراغماتية في وزارة المالية.

قد لا يوجد من يأخذ على محمل الجد المقترح الخاص بالجماعات المحافظة المتطرفة الروسية بشن حملات واسعة على السكان المسلمين الذين يتزايد عددهم شيئاً جديداً، ولكن مثل هذا المقترح يلاقي اليوم قبولا وتأييداً واسعاً. ان نصف السكان الروس يربطون بين الإرهاب والإسلام، كما ان 70 ٪ منهم يأخذون الحذر من المسلمين. اما الفئة الثالثة والأخيرة في شريحة المتطرفين التي تصطف في أقصى اليمين والمطالبة بالتخلص من الليبرالية والشيوعية والفاشية، فقد اخذت تكتسب المزيد من الاهتمام في الأسابيع الأخيرة بعد ان قام (دوغين) بشن هجوم اعلامي ضد (بوتين) ينتقده فيه على فشله في صياغة أيديولوجية جديدة تخص روسيا، اذ قال انه لا يكفي ان نقوم فقط باقتلاع الطرق والأساليب القديمة في التفكير، بل على الكرملين ان يبني كذلك أيديولوجية ملموسة تقوم على أساس التقاليد، والتنوير، والاستثنائية. وسمّى هذه العملية الساعية الى صياغة الهوية الروسية “الثورة المحافظة”، وقد اثار ذلك حفيظة وقلق سكان موسكو الذين يبذلون جهوداً كبيرة لمنع حصول الثورات مهما كان نوعها في البلاد المنقسمة على نفسها.

نتائج غير متوقعة ان بروز الجماعات المحافظة المتطرفة وأشباههم من المحافظين التقليديين ساهم في تشجيع وظهور المستشارين وزمرة المتبجحين في أروقة البلاغة اللغوية، كما ان الكرملين أطلق حملات تشجيع وترويج لصالح جماعات في اقصى اليمين، كما برزت جماعات اخرى إضافية بجهودها الخاصة للسير في نفس الاتجاه. وفي مقاطعة (بيرم) أسس قسم العلاقات الدولية في أكاديمية العلوم الروسية منتدى سنوي يهدف الى تدريب مئات الخبراء حول وحدة روسيا القومية وعلى المتخرجين ان ينشطوا بعد ذلك في الترويج لقيم روسيا المحافظة ونشرها في المناطق والمحافظات الأخرى وتبدأ هذه الدعاية الأيديولوجية انطلاقاً من المستوى الشعبي.

وتؤدي سلسلة التغييرات الى قلب النظام التعليمي لتبني القيم المحافظة. خلال العامين الماضيين باشرت المدارس الثانوية الروسية بتعليم مادة مقررة في المنهاج الدراسي عنوانها (كلنا معاً) وهي تشرح لماذا جرى توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا، وتتضمن خطة المنهاج الزعم القائل ان القوى العالمية لا تريد لروسيا ان تصبح قوية ومستقرة، وفي 31 تشرين الأول 2016 اقترح مجلس الأمن الروسي انشاء مركز لصياغة وجهة النظر الرسمية لعرض الأحداث التاريخية، كالثورة البلشفية عام 1917، والتي يمكن دمجها لاحقاً بالمنهاج التعليمي على الصعيد الوطني وضمن رسائل الاعلام الحكومية. وفي العام لماضي جرى بث عدد من البرامج التلفزيونية ذات التوجه اليميني، وازداد عدد القنوات الإعلامية التي أخذت تبث مواد إعلامية من عروض وافلام محافظة ترجع الى الحقبة السوفييتية ومن بينها فيلم يمجد شخصية (ايفان الرهيب)، وتم انشاء محطات تلفزيونية جديدة لها نفس التوجه اليميني، وخلال شهر كانون الثاني عام 2016 بدأت القناة الدينية ذات الحماس القومي (تسارغارد تي في) بالبث على مدار اليوم، وتعتبر اليوم من أكثر المحطات التلفزيونية انتشاراً ويملكها (قنسطنطين مالوفيف) الذي يشرف على مؤسسة للمضاربة بالأسهم، وتقدم القناة في برامجها العادية عروضاً حول (دوغين) وقادة الكنيسة الأرثوذوكسية الروسية، انها باختصار تروج للكنيسة الروسية وتدعو الى التدخل التام في أوكرانيا، وتقدم نصائح عن كيفية مقاومة الدعاية الغربية، وهي تزعم ايضاً ان المهاجرين المسلمين في روسيا هم عملاء للدولة الإسلامية. وفي مناطق أخرى من روسيا وخلال الأشهر القليلة الماضية جرى بناء وتشييد سلسلة من النصب والتماثيل ذات التوجه المحافظ والتي استقطبت اهتمام وسائل الاعلام. ففي شهر أيلول الماضي بادرت جماعة مدنية محلية تسمى (الروح الروسية) الى إقامة تمثال ل (جوزف ستالين) في (سورغوت)، وفي 14 تشرين الأول 2016 تم نصب اول تمثال ل (ايفان الرهيب) في (اوريول) وبمباركة السلطات المحلية، وأقيم التمثال الذي يبلغ ارتفاعه 8 أمتار وهو يمثل القيصر الروسي الذي اشتهر بحملاته الوحشية واحتلال الأراضي وتوسيع الامبراطورية الروسية.

وقد ازيح الستار عن هذا التمثال امام حشد يضم المئات من الناس الذي كانوا يرتدون اعلاماً امبراطورية ذات اللونين الأسود والأصفر، ويصور التمثال (ايفان الرهيب) وهو جالس على حصان ممسكاً بالسيف بإحدى يديه والصليب باليد الأخرى، وسيجري نصب تمثال ثان ل( فلاديمير الكبير) في (الكسندروف) في وقت قريب ويبلغ طوله 17 متراً وذلك نزولاً عند رغبة موسكو والذي سيكشف عنه الرئيس الروسي بوتين مع بطريرك الكنيسة الروسية الأرثوذوكسية (كيريل) وذلك عند مدخل بوابة الكرملين، وقد جلب هذا التمثال نقمة الرئيس الأوكراني (بيترو بوريشينكو) لأنه يعتبر القديس فلاديمير أوكراني الأصل، في حين يصر الروس على انه جرى تعميده كمسيحي في شبه جزيرة القرم، مما يترك انطباعاً ان الروس يقومون بتسييس القديس (فلاديمير) ويقحمون ذكراه لتبرير سياسة احتلال وضم شبه جزيرة القرم. طبعاً لا تقتصر نشاطات المحافظين المتطرفين داخل صفوف لمدارس وضمن الساحات العامة فقط، اذ هي تنتشر الآن باتجاه أجهزة البوليس والأمن، ويثير هذا التوجه حفيظة الكرملين.

في 24 أيلول بادرت مجموعة من النشطاء ترتدي الأزياء العسكرية وتستعرض نفسها بكونها ” ضباط روسيا: جناح الشباب التنفيذي” وشكلت سلسلة بشرية لمنع معرض فني للمصور الفوتوغرافي الأمريكي (جوك ستورجيس) بحجة ان المعرض يتضمن مادة خلاعية تعبر عن انحلال الأخلاق الأمريكية. لا أحد يعلم من يدعم نشاط (جناح الشباب التنفيذي) هذا، ولكن من المؤكد ان ازيائهم التي كانوا يرتدونها كانت من الأصناف الفاخرة وجرى تصوير احتجاجهم وتصميمه ليكون محطة اهتمام من قبل وسائل الاعلام.

وفي شهر تشرين الأول من هذا العام ايضاً تناقلت الأنباء عن وجود دلائل لمخيم داخل الغابات المحيطة بموسكو لتدريب فصائل شبه عسكرية تتبع الجماعات المحافظة المتطرفة وتطلق على نفسها اسم ( اتحاد الشباب الأوراسي- ESM ) الذي يدعمه (دوغين) والذي ادرج اسمه على لائحة الحظر الأمريكية لدوره في التحريض على الأعمال المعادية داخل أوكرانيا الشرقية. وتدعي ال (ESM) انها أنشأت مثل هذه المخيمات في كل أرجاء روسيا تلبية لمطالب الكرملين الوطنية، كما تعلن هذه المنظمة ان هدفها هو تدريب المتطوعين الروس للقتال في أوكرانيا الشرقية ومقاومة الضربات العسكرية المحتملة من قبل حلف الناتو. وبحسب (مركز الإصلاح السياسي والاقتصادي) في روسيا تقدر المبالغ التي حصلت عليها (ESM) من التمويل الحكومي ب (300,000 $) وذلك بين عامي 2013 – 2015 .

الكثير ممن يشاركون في هذه المخيمات يوجهون الانتقادات لسياسة بوتين ويقولون انه لم يكن هجومياً بما فيه الكفاية في أوكرانيا او ضد حلف الناتو. يقول (دوغين) ان ال (ESM) يجب ان لا تخضع لقيادة الكرملين وان ايديولوجيتها هي أكثر أهمية من ولائها، ويوجد العديد من الأطراف الأخرى والجماعات الفوضوية التي تشارك في دورات التدريب العسكرية التابعة لتلك المخيمات وأغلبهم من المعارضين لبوتين وادارته. قد تدفع كل هذه التطورات الكرملين الى لحظة تمهل وتأمل.

فرغم ان حكومة بوتين كانت تحتضن وتشجع الأيديولوجية المحافظة، ينتابها القلق الآن من كون مثل هذه المواقف ستعود عليها بالضرر أكثر من الفائدة المتوخاة منها. بوتين الذي يواجه ضغوطاً من قبل الليبراليين والمحافظين على السواء لتغيير مواقف روسيا نحو العديد من القضايا بما فيها قضية أوكرانيا وكذلك موضوع علاقتها مع الولايات المتحدة. ومع تصاعد الخطابات العدائية والحربية الطنانة يجازف بوتين بالبقاء في الخلف، ولكنه يدرك في نفس الوقت المخاطر المحتملة التي ستؤدي اليها الأعمال العدائية والهجومية التي قد ينفذها في الخارج. ان بروز وانتشار الآراء المتطرفة سيجعل من الصعب على بوتين ان يتبنى استراتيجية لتوحيد روسيا بعد ان اصابتها الشروخ والتي ستزداد وتتعمق مع كل أزمة اقتصادية أو فشل في السياسة الخارجية او مع اي تغيير ديموغرافي، انها العوامل التي الهبت مخاوف الكرملين من عدم الاستقرار. ومع ازدياد المخاوف من ان انتشار واتساع الآراء المحافظة وما قد تجلبه من مخاطر أقدم الكرملين على ضرب بعض مبادرات اليمين المتطرف، ففي شهر نيسان عندما قام رجل مسلم بقطع رأس طفل روسي كرسالة موجهة ضد الروس والكنيسة الأرثوذوكسية لجأ الكرملين الى إيقاف العديد من المواقع والمحطات الإعلامية للجماعات المحافظة الروسية خشية قيامها بإثارة المشاعر المعادية للمسلمين وما قد ينجم عنه من توتر. ولكن لا يبدو ان الكرملين مستعد بما فيه الكفاية للتخلي عن قاعدته، بل سيحاول ان يقيم توازناً عن طريق لجم الفئات الأشد تطرفاً مع استمراره في الاعتماد على الجهات اليمينية لتعزيز قاعدته السياسية.

  • Social Links:

Leave a Reply